فصل: تفسير الآية رقم (32)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏‏}‏

أردفت أوامر العفاف بالإرشاد إلى ما يعين عليه، ويُعف نفوس المؤمنين والمؤمنات، ويغض من أبصارهم، فأمر الأولياء بأن يزوجوا أياماهم ولا يتركوهن متأيمات لأن ذلك أعف لهن وللرجال الذين يتزوجونهن‏.‏ وأمر السادة بتزويج عبيدهم وإمائهم‏.‏ وهذا وسيلة لإبطال البغاء كما سيتبع به في آخر الآية‏.‏

والآيامى‏:‏ جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة بوزن فَيْعِل وهي المرأة التي لا زوج لها كانت ثيباً أم بكراً‏.‏ والشائع إطلاق الأيم على التي كانت ذات زوج ثم خلت عنه بفراق أو موته، وأما إطلاقه على البكر التي لا زوج لها فغير شائع فيحمل على أنه مجاز كثر استعماله‏.‏ والأيم في الأصل من أوصاف النساء قاله أبو عمرو والكسائي ولذلك لم تقترن به هاء التأنيث فلا يقال‏:‏ امرأة أيّمة‏.‏ واطلاق الأيم على الرجل الخلي عن امرأة إما لمشاكلة أو تشبيه، وبعض أيمة اللغة كأبي عبيد والنضر بن شميل يجعل الأيم مشتركاً للمرأة والرجل وعليه درج في «الكشاف» و«القاموس»‏.‏

ووزن أيامى عند الزمخشري أفاعل لأنه جمع أيم بوزن فيعل، وفيعل لا يجمع على فَعَالى‏.‏ فأصل أيامى أيائم فوقع فيه قلب مكاني قدمت الميم للتخلص من ثقل الياء بعد حرف المد، وفتحت الميم للتخفيف فقلبت الياء ألفاً‏.‏ وعند ابن مالك وجماعة‏:‏ وزنه فَعَالى على غير قياس وهو ظاهر كلام سيبويه‏.‏

و ‏{‏الأيامى‏}‏ صيغة عموم لأنه جمع معرف باللام فتشمل البغايا‏.‏ أُمر أولياؤهن بتزويجهن فكان هذا العموم ناسخاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3‏]‏ فقد قال جمهور الفقهاء‏:‏ إن هذه ناسخة للآية التي تقدمت وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد‏.‏ ونقل القول بأن التي قبلها محكمة عن غير معين‏.‏ وزوج أبو بكر امرأة من رجل زنى بها لما شكاه أبوها‏.‏

ومعنى التبعيض في قوله ‏{‏منكم‏}‏ أنهن من المسلمات لأن غير المسلمات لا يخلُون عند المسلمين من أن يكن أزواجاً لبعض المسلمين فلا علاقة للآية بهن، أو أن يكن مملوكات فهن داخلات في قوله‏:‏ ‏{‏والصالحين من عبادكم وإمائكم‏}‏ على الاحتمالات الآتية في معنى ‏{‏الصالحين‏}‏ وأما غيرهن فولايتهن لأهل ملتهن‏.‏

والمقصود‏:‏ الأيامى الحرائر، خصصه قوله بعده ‏{‏والصالحين من عبادكم وإمائكم‏}‏‏.‏ وظاهر وصف العبيد والإماء بالصالحين أن المراد اتصافهم بالصلاح الديني‏.‏ أي الأتقياء‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يحملكم تحقق صلاحهم على إهمال إنكاحهم لأنكم آمنون من وقوعهم في الزنى بل عليكم أن تزوجوهم رفقاً بهم ودفعاً لمشقة العنت عنهم‏.‏

فيفيد أنهم إن لم يكونوا صالحين كان تزويجهم آكد أمراً‏.‏ وهذا من دلالة الفحوى فيشمل غيرُ الصالحين غيرَ الأعفّاء والعفائف من المماليك المسلمين، ويشمل المماليك غير المسلمين‏.‏ وبهذا التفسير تنقشع الحيرة التي عرضت للمفسرين في التقييد بهذا الوصف‏.‏

وقيل أريد بالصالحين الصلاح للتزوج بمعنى اللياقة لشؤون الزوج، أي إذا كانوا مظنة القيام بحقوق الزوجية‏.‏

وصيغة الأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏ إلى آخره مجملة تحتمل الوجوب والندب بحسب ما يعرض من حال المأمور بإنكاحهم‏:‏ فإن كانوا مظنة الوقوع في مضار في الدين أو الدنيا كان إنكاحهم واجباً، وإن لم يكونوا كذلك فعند مالك وأبي حنيفة إنكاحهم مستحب‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يندب‏.‏ وحمل الأمر على الإباحة، وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن يكونوا فقراء‏}‏ الخ استئناف بياني لأن عموم الأيامى والعبيد والإماء في صيغة الأمر يثير سؤال الأولياء والموالي أن يكون الراغب في تزوج المرأة الأيم فقيراً فهل يرده الولي، وأن يكون سيد العبد فقيراً لا يجد ما ينفقه على زوجه، وكذلك سيد الأمة يخطبها رجل فقير حر أو عبد فجاء هذا لبيان إرادة العموم في الأحوال‏.‏ ووعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيراً أن يغنيه الله، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حراً وتوسعة المال على مولاه إن كان عبداً فلا عذر للولي ولا للمولى أن يرد خطبته في هذه الأحوال‏.‏

وإغناء الله إياهم توفيق ما يتعاطونه من أسباب الرزق التي اعتادوها مما يرتبط به سعيهم الخاص من مقارنة الأسباب العامة أو الخاصة التي تفيد سعيهم نجاحاً وتجارتهم رباحاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله تكفل لهم أن يكفيهم مؤنة ما يزيده التزوج من نفقاتهم‏.‏

وصفة الله «الواسع» مشتقة من فعل وسِع باعتبار أنه وصف مجازي لأن الموصوف بالسعة هو إحسانه‏.‏ قال حجة الإسلام‏:‏ والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة، وتضاف مرة إلى الإحسان وبذل النعم، وكيفما قُدّر وعلى أي شيء نُزّل فالواسع المطلق هو الله تعالى لأنه إن نُظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته وإن نُظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته ا ه‏.‏

والذي يؤخذ من استقراء القرآن وصف الواسع المطلق إنما يراد به سعة الفضل والنعمة، ولذلك يقرن بوصف العلم ونحوه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلّاً من سَعته وكان الله واسعاً حكيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 130‏]‏‏.‏ أما إذا ذكرت السعة بصيغة الفعل فيراد بها الإحاطة فيما تُميَّزُ به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسع ربنا كل شيء علماً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وذكر ‏{‏عليم‏}‏ بعد ‏{‏واسع‏}‏ إشارة إلى أنه يعطي فضله على مقتضى ما علمه من الحكمة في مقدار الإعطاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏‏.‏

أمِر كل من تعلق به الأمر بالإنكاح بأن يلازموا العفاف في مدة انتظارهم تيسير النكاح لهم بأنفسهم أو بإذن أوليائهم ومواليهم‏.‏ والسين والتاء للمبالغة في الفعل، أي وليعف الذين لا يجدون نكاحاً‏.‏ ووجه دلالته على المبالغة أنه في الأصل استعارة‏.‏ جعل طلب الفعل بمنزلة طلب السعي فيه ليدل على بذل الوسع‏.‏

ومعنى ‏{‏لا يجدون نكاحاً‏}‏ لا يجدون قدرة على النكاح ففيه حذف مضاف‏.‏ وقيل النكاح هنا اسم ما هو سبب تحصيل النكاح كاللباس واللحاف‏.‏ فالمراد المهر الذي يبذل للمرأة‏.‏

والإغناء هنا هو إغناؤهم بالزواج‏.‏ والفضل‏:‏ زيادة العطاء‏.‏

‏{‏والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذى ءاتاكم‏}‏‏.‏

لما ذُكر وعد الله مَن يزوج من العبيد الفقراء بالغنى وكان من وسائل غناه أن يذهب يكتسب بعمله وكان ذلك لا يستقل به العبد لأنه في خدمة سيده جعل الله للعبيد حقاً في الاكتساب لتحرير أنفسهم من الرق ويكون في ذلك غنى للعبد إن كان من ذوي الأزواج‏.‏ أمر الله السادة بإجابة من يبتغي الكتابة من عبيدهم تحقيقاً لمقصد الشريعة من بث الحرية في الأمة، ولمقصدها من إكثار النسل في الأمة، ولمقصدها من تزكية الأمة واستقامة دينها‏.‏

‏{‏والذين‏}‏ مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره ‏{‏فكاتبوهم‏}‏ وهذا الثاني هو اختيار سيبويه والخليل‏.‏

ودخول الفاء في ‏{‏فكاتبوهم‏}‏ لتضمين الموصول معنى الشرطية كأنه قيل‏:‏ إن ابتغى الكتاب ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم، تأكيداً لترتب الخير على تحقق مضمون صلة الموصول بأن يكون كترتب الشروط على الشرط‏.‏

والكتاب‏:‏ مصدر كاتب إذا عاقد على تحصيل الحرية من الرق على قدر معين من المال يُدفع لسيد العبد منجماً، أي موزعاً على مواقيت معينة، كانوا في الغالب يوقتونها بمطالع نجوم المنازل مثل الثريا فلذلك سموا توقيت دفعها نجماً وسموا توزيعها تنجيماً، ثم غلب ذلك في كل توقيت فيقال فيه‏:‏ تنجيم‏.‏ وكذلك الديات والحمالات كانوا يجعلونها موزعة على مواقيت فيسمون ذلك تنجيماً وكان تنجيم الدية في ثلاث سنين على السواء، قال زهير‏:‏

تُعَفّى الكلوم بالمئين فأصبحت *** يُنجِّمها من ليس فيها بمُجرم

وسموا ذلك كتابة لأن السيد وعبده كانا يسجلان عقد تنجيم عوض الحرية بصك يكتبه كاتب بينهما، فلما كان في الكتب حفظ لحق كليهما أطلق على ذلك التسجيل كتابة لأن ما يتضمنه هو عقد من جانبين، وإن كان الكاتب واحداً والكتب واحداً‏.‏ وفي حديث عبد الرحمن بن عوف‏:‏ كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة‏.‏

ومعنى ‏{‏إن علمتم فيهم خيراً‏}‏ إن ظننتم أنهم لا يبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكناً من الإباق، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبداً كما كان‏.‏

وكانت الكتابة معروفة من عهد الجاهلية ولكنها كانت على خيار السيد فجاءت هذه الآية تأمر السادة بذلك إن رغبه العبد أو لحثه على ذلك على اختلاف بين الأئمة في محمل الأمر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكاتبوهم‏}‏‏.‏ فعن عمر بن الخطاب ومسروق وعمرو بن دينار وابن عباس والضحاك وعطاء وعكرمة والظاهرية أن الكتابة واجبة على السيد إذا علم خيراً في عبده وقد وكله الله في ذلك إلى علمه ودينه، واختاره الطبري وهو الراجح لأنه يجمع بين مقصد الشريعة وبين حفظ حق السادة في أموالهم فإذا عرض العبد اشتراء نفسه من سيده وجب عليه إجابته‏.‏ وقد هم عمر بن الخطاب أن يضرب أنس بن مالك بالدرّة لما سأله سيرين عبدُه أن يكاتبه فأبى أنس‏.‏ وذهب الجمهور إلى حمل الأمر على الندب‏.‏

وقد ورد في السنة حديث كتابة بريرة مع سادتها وكيف أدت عنها عائشة أم المؤمنين مال الكتابة كله‏.‏ وذكر ابن عطية عن النقاش ومكي بن أبي طالب أن سبب نزول هذه الآية‏:‏ أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى أو لحاطب بن أبي بلتعة اسمه صبيح القبطي أو صُبْح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فأنزل الله هذه الآية فكاتبه مولاه‏.‏ وفي «الكشاف» أن عمر بن الخطاب كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام‏.‏

والظاهر أن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وآتوهم من مال الله الذي ءاتاكم‏}‏ موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه‏.‏ وكذلك قال مالك‏:‏ يوضع عن المكاتب من آخر كتابته ما تسمح به نفس السيد‏.‏ وحدده بعض السلف بالربع وبعضهم بالثلث وبعضهم بالعشر‏.‏

وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ ‏(‏الإيتاء‏)‏ وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطاً لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء كما سمي إكمال المطلِّق قبل البناء لمطلقته جميعَ الصداق عفواً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ في قول جماعة في محمل ‏{‏الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ منهم الشافعي‏.‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وءاتوهم‏}‏ للمسلمين‏.‏ أمرهم الله بإعانة المكاتبين‏.‏

والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء وحمله الشافعي على الوجوب‏.‏ وقال إسماعيل بن حماد القاضي‏:‏ وجعل الشافعي الكتابة غير واجبة وجعل الأمر بالإعطاء للوجوب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجباً وهذا لا نظير له ا ه‏.‏ وفيه نظر‏.‏

وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله‏.‏

وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه‏.‏

والموصول في قوله ‏{‏الذي آتاكم‏}‏ يجوز أن يكون وصفاً ل ‏{‏مال الله‏}‏ ويكون العائد محذوفاً تقديره‏:‏ آتاكموه‏.‏ ويجوز أن يكون وصفاً لاسم الجلالة فيكون امتناناً وحثاً على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة ويكون مفعول ‏{‏ءاتاكم‏}‏ محذوفاً للعموم، أي ءاتاكم على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة‏.‏ ويكون مفعول ‏{‏ءاتاكم‏}‏ محذوفاً للعموم، أي ءاتاكم نعماً كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏وءاتاكم من كل ما سألتموه‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وأحكام الكتابة وعجز المكاتَب عن أداء نجومه ورجوعه مملوكاً وموت المكاتب وميراث الكتابة وأداء أبناء المكاتب نجوم كتابته مبسوطة في كتب الفروع‏.‏

‏{‏وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

انتقال إلى تشريع من شؤون المعاملات بين الرجال والنساء التي لها أثر في الأنساب ومن شؤون حقوق الموالي والعبيد، وهذا الانتقال لمناسبة ما سبق من حكم الاكتساب المنجر من العبيد لمواليهم وهو الكتابة فانتقل إلى حكم البغاء‏.‏

والبغاء مصدر‏:‏ باغت الجارية، إذا تعاطت الزنى بالأجر حرفة لها، فالبغاء الزنى بأجرة‏.‏ واشتقاق صيغة المفاعلة فيه للمبالغة والتكرير ولذلك لا يقال إلا‏:‏ باغت الأمة‏.‏ ولا يقال‏:‏ بغَتْ‏.‏ وهو مشتق من البَغي بمعنى الطلب كما قال عياض في «المشارق» لأن سيد الأَمَة بغى بها كسباً‏.‏ وتسمى المرأة المحترفة به بَغياً بوزن فعول بمعنى فاعل ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث‏.‏ فأصل بَغيّ بغوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء‏.‏

وقد كان هذا البغاء مشروعاً في الشرائع السالفة فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح 38‏:‏ «فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل ‏(‏عينائم‏)‏ التي على الطريق» ثم قال فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها فمال إليها على الطريق وقال‏:‏ هاتي أدخل عليك‏.‏ فقالت‏:‏ ماذا تعطيني‏؟‏ فقال‏:‏ أرسل لك جدي معزى من الغنم‏.‏‏.‏ ثم قال ودخل عليها فحبلت منه»‏.‏

وقد كانت في المدينة إماء بغايا منهن ست إماء لعبد الله بن أُبَي بن سلول وهن‏:‏ مُعاذة ومُسيكة وأمَيْمَةُ وَعمرَةُ وأرْوَى وقتيلة، وكان يُكرههن على البغاء بعد الإسلام‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ روى مالك عن الزهري أن رجلاً من أسرى قريش في يوم بدر قد جُعل عند عبد الله بن أبي وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت وكان عبد الله بن أُبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه ‏(‏أي من الأسير القرشي‏)‏ فيطلب فداء ولده، أي فداء رقه من ابن أُبَيّ‏.‏ ولعل هذا الأسير كان مؤسراً له مال بمكة وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل يدفعها لسيد الأمة، وأنها شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏.‏

وقالوا إن عبد الله بن أُبَيّ كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامة له‏.‏ فأقبلت معاذة إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكر أبو بكر ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فأمر النبي أبا بكر بقبضها فصاح عبد الله بن أُبَيّ‏:‏ مَنْ يعذِرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا‏.‏ فأنزل الله هذه الآية، أي وذلك قبل أن يتظاهر عبد الله بن أُبَيّ بالإسلام‏.‏ وجميع هذه الآثار متظافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن‏.‏

وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البيطار ليعرفهن الرجال، وهن كما ذكر الواحدي‏:‏ أم مهزول جارية السائب المخزومي، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل، ومزنة جَارية مالك بن عميلة بن السباق، وجَلالة جارية سهيل بن عمرة، وأم سُويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وشريفة جارية ربيعة بن أسود‏.‏ وقرينة أو قريبة جارية هشام بن ربيعة، وقرينة جارية هلال بن أنس‏.‏ وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير‏.‏

قلت‏:‏ وتقدم أن من البغايا عَناق ولعلها هي أم مهزول كما يقتضيه كلام القرطبي في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ولم أقف على أن واحدة من هؤلاء اللاتي كنّ بمكة أسلمت وأما اللائي كنّ بالمدينة فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة، ولم أقف على أسماء الثلاث الأخر في الصحابة فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن‏.‏

والبغاء في الجاهلية كان معدوداً من أصناف النكاح‏.‏ ففي الصحيح من حديث عائشة أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء‏:‏

فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها‏.‏

ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب‏.‏ وإنما يُفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع‏.‏

ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم‏:‏ قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدتُّ فهو ابنك يا فلان‏.‏ تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها‏.‏

ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت جُمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودُعي ابنَه، فلما بُعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم اه‏.‏

فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق‏.‏ وكانت عَنَاقُ صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح إلازانية أو مشركة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب وكانوا يسمون أجرهن مهراً كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله نهى عن مهر البغي ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات جمع فتاة بمعنى الأمة، كما قالوا للعبد‏:‏ غلام‏.‏

واعلم أن تفسير هذه الآية معضل وأن المفسرين ما وفَّوها حق البيان وما أتوا إلا إطناباً في تكرير مختلف الروايات في سبب نزولها وأسماء من وردت أسماؤهم في قضيتها دون إفصاح عما يستخلصه الناظر من معانيها وأحكامها‏.‏

ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء‏}‏ موجه إلى المسلمين، فإن كانت قصة أمة ابن أُبَيّ حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول فشمله العموم لا محالة، وإن كانت حدثت قبل أن يُظهر الإسلام فهو سبب ولا يشمله الحكم لأنه لم يكن من المسلمين يومئذٍ وإنما كان تذمر أمته منه داعياً لنهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء‏.‏ وأيّاً مَّا كان فالفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة‏.‏

وقد كان إظهار عبد الله بن أبيّ الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمناً في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارهاً مصرّاً على النفاق‏.‏ ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبيّ حين نزلت‏:‏ مَنْ يعذِرنا من محمد يغلِبنا على مماليكنا، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمناً بعد الهجرة بنحو سنة‏.‏

ولا شك أن البغاء يمت إلى الزنى بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزنى سراً لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علناً، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذين تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغيّ بأن الحمل ممن تعيّنه‏.‏ واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيهاً بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد‏.‏

ولا شك في أن الزنى كان محرماً تحريماً شديداً على المسلم من مبدإ ظهور الإسلام‏.‏ وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها‏.‏ وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم‏.‏

ولا يعقل أن يكون البغاء محرماً قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرّم بين المسلمين أمثالهم‏.‏

ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ توطئة لتحريم الخمر البتة‏.‏ وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله‏:‏ ‏{‏إن أردن تحصناً‏}‏ بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن‏.‏

والداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن‏.‏ ففي ذكر القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به‏.‏

وذكر ‏{‏إن أردن تحصناً‏}‏ لحالة الإكراه إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين وغالب الإباء أن يكون عن إرادة التحصن‏.‏ هذا تأويل الجمهور ورجعوا في الحامل على التأويل إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر انعقد الإجماع على مقتضاه فلا نزاع في أن الإجماع على تحريم البغاء ولكن النظر في أن تحريمه هل كان بهذه الآية‏.‏

وأنا أقول‏:‏ إن ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول‏.‏

والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلاً على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن‏.‏ فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريماً باتاً‏.‏ فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه، ثم لم يلبث أن حرم تحريماً مطلقاً كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغيّ، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء‏.‏

وقد يكون هذا الاحتمال معضوداً بقوله تعالى بعده‏:‏ ‏{‏ومن يكرههنّ فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم‏}‏ كما يأتي‏.‏

وفي «تفسير الأصفهاني»‏:‏ «وقيل إنما جاء النهي عن الإكراه لا عن البغاء لأن حد الزنا نزل بعد هذا»‏.‏

وهذا يقتضي أن صاحب هذا القول يجعل أول السورة نزل بعد هذه الآيات ولا يعرف هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لتبتغوا عرض الحياة الدنيا‏}‏ متعلق ب ‏{‏تكرهوا‏}‏ أي لا تكرهوهن لهذه العلة‏.‏ ذكر هذه العلة لزيادة التبشيع كذكر ‏{‏إن أردن تحصناً‏}‏‏.‏

و ‏{‏عرض الحياة‏}‏ هو الأجر الذي يكتسبه الموالي من إمائهم وهو ما يسمى بالمهر أيضاً‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم‏}‏ فهو صريح في أنه حكم متعلق بالمستقبل لأنه مضارع في حيّز الشرط، وهو صريح في أنه عَفْو عن إكراه‏.‏

والذي يشتمل عليه الخبر جانبان‏:‏ جانب المُكرِهين وجانب المُكرَهات ‏(‏بفتح الراء‏)‏، فأما جانب المكرهين فلا يخطر بالبال أن الله غفور رحيم لهم بعد أن نهاهم عن الإكراه إذ ليس لمثل هذا التبشير نظير في القرآن‏.‏

وأما الإماء المُكرَهات فإن الله غفور رحيم لهن‏.‏ وقد قرأ بهذا المقدر عبد الله بن مسعود وابن عباس فيما يروى عنهما وعن الحسن أنه كان يقول‏:‏ «غفور رحيم لهن والله لهن والله»‏.‏ وجعلوا فائدة هذا الخبر أن الله عذرالمُكرَهات لأجل الإكراه، وأنه من قبيل قوله‏:‏ ‏{‏فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏‏.‏ 5 وعلى هذا فهو تعريض بالوعيد للذين يُكرِهون الإماء على البغاء‏.‏

ومن المفسرين من قدر المحذوف ضمير ‏(‏مَن‏)‏ الشرطية، أي غفور رحيم له، وتأولوا ذلك بأنه بعد أن يقلع ويتوب وهو تأويل بعيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ دليل جواب الشرط إذ حذف الجواب إيجازاً واستغني عن ذكره بذكر علته التي تشمله وغيره‏.‏ والتقدير‏:‏ فلا إثم عليهن فإن الله غفور رحيم لأمثالهن ممن أكره على فعل جريمة‏.‏ والفاء رابطة الجواب‏.‏

وحرف ‏(‏إنّ‏)‏ في هذا المقام يفيد التعليل ويغني غناء لام التعليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ذُيِّلت الأحكام والمواعظ التي سبقت بإثبات نفعها وجدواها لما اشتملت عليه مما ينفع الناس ويقيم عمود جماعتهم ويميز الحق من الباطل ويزيل من الأذهان اشتباه الصواب بالخطأ فيعلم الناس طرق النظر الصائب والتفكير الصحيح، وذلك تنبيه لما تستحقه من التدبر فيها ولنعمة الله على الأمة بإنزالها ليشكروا الله حق شكره‏.‏

ووصف هذه الآيات المنزلة بثلاث صفات كما وصف السورة في طالعتها بثلاث صفات‏.‏ والمقصد من الأوصاف في الموضعين هو الإمتنان فكان هذا يشبه رد العجز على الصدر، فجملة‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ مستأنفة استئناف التذييل وكان مقتضى الظاهر أن لا تعطف لأن شأن التذييل والاستئناف الفصل كما فصلت أختها الآتية قريباً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وإنما عدل عن الفصل إلى العطف لأن هذا ختام التشريعات والأحكام التي نزلت السورة لأسبابها‏.‏ وقد خللت بمثل هذا التذييل مرتين قبل هذا بقوله تعالى في ابتداء السورة ‏{‏وأنزلنا فيها آيات بينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 1‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 18‏]‏ ثم قوله هنا‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ فكان كل واحد من هذه التذييلات زائداً على الذي قبله؛ فالأول زائد بقوله‏:‏ ‏{‏يبين الله لكم الآيات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 18‏]‏ لأنه أفاد أن بيان الآيات لفائدة الأمة، وما هنا زاد بقوله‏:‏ ‏{‏ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين‏}‏‏.‏ فكانت كل زيادة من هاتين مقتضية العطف لما حصل من المغايرة بينها وبين أختها، وتعتبر كل واحدة عطفاً على نظيرتها، فوصفت السورة كلها بثلاث صفات ووصف ما كان من هذه السورة مشتملاً على أحكام القذف والحدود وما يفضي إليها أو إلى مُقاربها من أحوال المعاشرة بين الرجال والنساء بثلاث صفات، فقوله هنا‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبيَّنات‏}‏ يطابق قوله في أول السورة ‏{‏وأنزلنا فيها آيات بينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم‏}‏ يقابل قوله في أول السورة ‏{‏وفرضناها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 1‏]‏ على ما اخترناه في تفسير ذلك بأن معناه التعيين والتقدير لأن في التمثيل تقديراً وتصويراً للمعاني بنظائرها وفي ذلك كشف للحقائق، وقوله‏:‏ ‏{‏وموعظة للمتقين‏}‏ يقابل قوله في أولها ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والآيات جمل القرآن لأنها لكمال بلاغتها وإعجازها المعاندين عن أن يأتوا بمثلها كانت دلائل على أنه كلام منزّل من عند الله‏.‏

وابتدئ الكلام بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام به‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب ‏{‏مبيَّنات‏}‏ بفتح التحتية على صيغة المفعول‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن الله بيّنها ووضحها‏.‏ وقرأ الباقون بكسر التحتية على معنى أنها أبانت المقاصد التي أنزلت لأجلها‏.‏ ومعنيا القراءتين متلازمان فبذلك لم يكن تفاوت بين مفاد هذه الآية ومفاد قوله في نظيرتها ‏{‏وأنزلنا فيها آيات بينات‏}‏

‏[‏النور‏:‏ 1‏]‏ في أول السورة لأن البينات هي الواضحة، أي الواضحةُ الدلالة والإفادة‏.‏

والمَثل‏:‏ النظير والمشابه‏.‏ ويجوز أن يراد به الحال العجيبة‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الذين خلوا‏}‏ ابتدائية، أي مثلاً ينشأ ويتقوم من الذين خلوا‏.‏ والمراد نشأة المشابهة‏.‏ وفي الكلام حذف مضاف يدل عليه السياق تقديره‏:‏ من أمثال الذين خلوا من قبلكم‏.‏ وحذف المضاف في مثل هذا طريقة فصيحة، قال النابغة‏:‏

وقد خفتُ حتى ما تزيد مخافتي *** على وَعِللٍ في ذي المطارة عاقِل

أراد على مخافة وعل‏.‏

و ‏{‏الذين خلوا من قبلكم‏}‏ هم الأمم الذين سبقوا المسلمين، وأراد‏:‏ من أمثال صالحي الذين خلوا من قبلكم‏.‏

وهذا المثَل هو قصة الإفك النظيرة لقصة يوسف وقصة مريم في تقول البهتان على الصالحين البرآء‏.‏

والموعظة‏:‏ كلام أو حالة يعرف منها المرء مواقع الزلل فينتهي عن اقتراف أمثالها‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى ‏{‏فأعرض عنهم وعظهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏63‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏موعظة وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏145‏)‏‏.‏

ومواعظ هذه الآيات من أول السورة كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لولا إذ سمعتموه‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 12‏]‏ الآيات، وقوله‏:‏ ‏{‏يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 17‏]‏‏.‏

والمتقون‏:‏ الذين يتقون، أي يتجنبون ما نهوا عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏الله نُورُ السماوات والارض‏}‏‏.‏

أتْبع منةَ الهداية الخاصة في أحكام خاصة المفادة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ الآية بالامتنان بأن الله هو مكون أصول الهداية العامة والمعارف الحقِّ للناس كلهم بإرسال رسوله بالهدى ودين الحق، مع ما في هذا الامتنان من الإعلام بعظمة الله تعالى ومجده وعموم علمه وقدرته‏.‏

والذي يظهر لي أن جملة‏:‏ ‏{‏الله نور السموات والأرض‏}‏ معترضة بين الجملة التي قبلها وبين جملة‏:‏ ‏{‏مثل نوره كمشكاة‏}‏ وأن جملة‏:‏ ‏{‏مثل نوره كمشكاة‏}‏ بيان لجملة‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ كما سيأتي في تفسيرها فتكون جملة‏:‏ ‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏ تمهيداً لجملة‏:‏ ‏{‏مثَل نوره كمشكاة‏}‏‏.‏

ومناسبة موقع جملة‏:‏ ‏{‏مثل نوره كمشكاة‏}‏ بعد جملة‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ أن آيات القرآن نور قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏174‏)‏، وقال‏:‏ ‏{‏قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين‏}‏ في سورة العقود ‏(‏15‏)‏، فكان قوله‏:‏ ‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏ كلمة جامعة لمعان جمّة تتبع معاني النور في إطلاقه في الكلام‏.‏

وموقع الجملة عجيب من عدة جهات، وانتقال من بيان الأحكام إلى غرض آخر من أغراض الإرشاد وأفانين من الموعظة والبرهان‏.‏

والنور‏:‏ حقيقته الإشراق والضياء‏.‏ وهو اسم جامد لمعنى، فهو كالمصدر لأنا وجدناه أصلاً لاشتقاق أفعال الإنارة فشابهت الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة نحو‏:‏ استنوق الجمل، فإن فعل أنار مثل فعل أفلس، وفعل استنار مثل فعل استحجر الطين‏.‏ وبذلك كان الإخبار به بمنزلة الإخبار بالمصدر أو باسم الجنس في إفادة المبالغة لأنه اسم ماهية من المواهي فهو والمصدر سواء في الاتصاف‏.‏ فمعنى‏:‏ ‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏ أن منه ظهورهما‏.‏ والنور هنا صالح لعدة معان تشبّه بالنور‏.‏ وإطلاق اسم النور عليها مستعمل في اللغة‏.‏

فالإخبار عن الله تعالى بأنه نور إخبار بمعنى مجازي للنور لا محالة بقرينة أصل عقيدة الإسلام أن الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض لا يتردد في ذلك أحد من أصحاب اللسان العربي ولا تخلو حقيقة معنى النور عن كونه جوهراً أو عرضاً‏.‏ وأسعد إطلاقات النور في اللغة بهذا المقام أن يراد به جلاء الأمور التي شأنها أن تخفى عن مدارك الناس وتلتبس فيقل الاهتداء إليها، فإطلاقه على ذلك مجاز بعلامة التسبب في الحس والعقل وقال الغزالي في رسالته المعروفة «بمشكاة الأنوار»‏:‏ النور هو الظاهر الذي به كل ظهور، أي الذي تنكشف به الأشياء وتنكشف له وتنكشف منه وهو النور الحقيقي وليس فوقه نور‏.‏ وجعل اسمه تعالى النور دالاً على التنزه عن العدم وعلى إخراج الأشياء كلها عن ظلمة العدم إلى ظهور الوجود فآل إلى ما يستلزمه اسم النور من معنى الإظهار والتبيين في الخلق والإرشاد والتشريع وتبعه ابن برَّجان الإشبيلي في «شرح الأسماء الحسنى» فقال‏:‏ إن اسمه النور آل إلى صفات الأفعال اه‏.‏

أما وصف النور هنا فيتعين أن يكون ملائماً لما قبل الآية من قوله‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ وما بعدها من قوله‏:‏ ‏{‏مثل نوره كمشكاة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يهدي الله لنوره من يشاء‏}‏ وقوله عقب ذلك‏:‏ ‏{‏ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وقد أشرنا آنفاً إلى أن للنور إطلاقات كثيرة وإضافات أخرى صالحة لأن تكون مراداً من وصفه تعالى بالنور‏.‏ وقد ورد في مواضع من القرآن والحديث فيحمل الاطلاق في كل مقام على ما يليق بسياق الكلام ولا يطرد ذلك على منوال واحد حيثما وقع، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ‏"‏ فإن عطف «من فيهن» يؤذن بأن المراد ب«السماوات والأرض» ذاتهما لا الموجودات التي فيهما فيتعين أن يراد بالنور هنالك إفاضة الوجود المعبر عنه بالفتق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كانتا رتقاً ففتقناهما‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه بقدرته تعالى استقامت أمورهما‏.‏

والتزم حكماء الإشراق من المسلمين وصوفية الحكماء معاني من إطلاقات النور‏.‏ وأشهرها ثلاثة‏:‏ البرهان العلمي، والكمال النفساني، وما به مشاهدة النورانيات من العوالم‏.‏ وإلى ثلاثتها أشار شهاب الدين يحيى السهروردي في أول كتابه «هياكل النور» بقوله‏:‏ «يا قيوم أيِّدنا بالنور وثبتنا على النور واحشرنا إلى النور» كما بينه جلال الدين الدواني في «شرحه»‏.‏

ونلحق بهذه المعاني اطلاق النور على الإرشاد إلى الأعمال الصالحة وهو الهدي‏.‏

وقد ورد في آيات من القرآن إطلاق النور على ما هو أعم من الهدي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هُدًى ونور‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ فعطف أحد اللفظين على الآخر مشعر بالمغايرة بينهما‏.‏ وليس شيء من معاني لفظ النور الوارد في هذه الآيات بصالح لأن يكون هو الذي جعل وصفاً لله تعالى لا حقيقة ولا مجازاً فتعين أن لفظ ‏(‏نور‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مثل نوره كمشكاة‏}‏ غير المراد بلفظ نور في قوله‏:‏ ‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏ فالنور لفظ مشترك استعمل في معنى وتارة أخرى في معنى آخر‏.‏

فأحسن ما يفسر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏ أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور وخاصة أسباب المعرفة الحق والحجة القائمة والمرشد إلى الأعمال الصالحة التي بها حسن العاقبة في العالَمَيْن العلوي والسفلي، وهو من استعمال المشترك في معانيه‏.‏

ويجوز أن يراد بالسماوات والأرض من فيهما من باب‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وهو أبلغ من ذكر المضاف المحذوف لأن في هذا الحذف إيهام أن السماوات والأرض قابلة لهذا النور كما أن القرية نفسها تشهد بما يسأل منها، وذلك أبلغ في الدلالة على الإحاطة بالمقصود وألطف دلالة‏.‏

فيشمل تلقين العقيدة الحق والهداية إلى الصلاح؛ فأما هداية البشر إلى الخير والصلاح فظاهرة، وأما هداية الملائكة إلى ذلك فبأن خلقهم الله على فطرة الصلاح والخير‏.‏ وبأن أمرهم بتسخير القوى للخير، وبأن أمر بعضهم بإبلاغ الهدى بتبليغ الشرائع وإلهام القلوب الصالحة إلى الصلاح وكانت تلك مظاهر هدى لهم وبهم‏.‏

‏{‏مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِى زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ‏}‏‏.‏

يظهر أن هذه الجملة بيان لجملة‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏ إذ كان ينطوي في معنى ‏{‏آيات‏}‏ ووصفها ب ‏{‏مبينات‏}‏ ما يستشرف إليه السامع من بيان لما هي الآيات وما هو تبيينها، فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً‏.‏ ووقعت جملة‏:‏ ‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏ معترضة بين هذه الجملة والتي قبلها تمهيداً لعظمة هذا النور الممثل بالمشكاة‏.‏

وجرى كلام كثير من المفسرين على ما يقتضي أنها بيان لجملة‏:‏ ‏{‏الله نور السماوات والأرض‏}‏ فيكون موقعها موقع عطف البيان فلذلك فُصلت فلم تعطف‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏نوره‏}‏ عائد إلى اسم الجلالة، أي مثل نور الله‏.‏ والمراد ب ‏{‏نوره‏}‏ كتابه أو الدين الذي اختاره، أي مثله في إنارة عقول المهتدين‏.‏

فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفّت به وسائل قوة الإشراق فهو نور الله لا محالة‏.‏ وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من الصفات دون أن يشبه نوره بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها‏.‏ ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق لقصد إكمال المشابهة لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف‏.‏ وبعد هذا فلأن المقصود ذكر ما حف بالمصباح من الأدوات ليتسنى كمال التمثيل بقبوله تفريق التشبيهات كما سيأتي وذلك لا يتأتى في القمر‏.‏

والمَثَل‏:‏ تشبيه حال بحال، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة‏.‏ فمعنى ‏{‏مثل نوره‏}‏‏:‏ شَبيهُ هدِيه حالُ مشكاة‏.‏‏.‏ إلى آخره، فلا حاجة إلى تقدير‏:‏ كنور مشكاة، لأن المشبه به هو المشكاة وما يتبعها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كمشكاة فيها مصباح‏}‏ المقصود كمصباح في مشكاة‏.‏ وإنما قُدم ‏{‏المشكاة‏}‏ في الذكر لأن المشبه به هو مجموع الهيئة، فاللفظ الدال على المشبه به هو مجموع المركب المبتدئ بقوله‏:‏ ‏{‏كمشكاة‏}‏ والمنتهي بقوله‏:‏ ‏{‏ولو لم تمسسه نار‏}‏ فلذلك كان دخول كاف الشبه على كلمة ‏{‏مشكاة‏}‏ دون لفظ ‏{‏مصباح‏}‏ لا يقتضي أصالة لفظ مشكاة في الهيئة المشبه بها دون لفظ ‏{‏مصباح‏}‏ بل موجب هذا الترتيب مراعاة الترتيب الذهني في تصور هذه الهيئة المتخيلة حين يلمح الناظر إلى انبثاق النور ثم ينظر إلى مصدره فيرى مشكاةً ثم يبدو له مصباح في زجاجة‏.‏

والمشكاة المعروف من كلام أهل اللغة أنها فرجة في الجدار مثل الكوة لكنها غير نافذة فإن كانت نافذة فهي الكوة‏.‏ ولا يوجد في كلام الموثوق عنهم من أهل العربية غير هذا المعنى، واقتصر عليه الراغب وصاحب «القاموس» و«الكشاف» واتفقوا على أنها كلمة حبشية أدخلها العرب في كلامهم فعدت في الألفاظ الواقعة في القرآن بغير لغة العرب‏.‏ ووقع ذلك في «صحيح البخاري» فيما فسره من مفردات سورة النور‏.‏

ووقع في «تفسير الطبري» وابن عطية عن مجاهد‏:‏ أن المشكاة العمود الذي فيه القنديل يكون على رأسه، وفي «الطبري» عن مجاهد أيضاً‏:‏ المشكاة الصُفر ‏(‏أي النحاس أي قطعة منه شبيه القصيبة‏)‏ الذي في جوف القنديل‏.‏ وفي معناه ما رواه هو عن ابن عباس‏:‏ المشكاة موقع الفتيلة، وفي معناه أيضاً ما قاله ابن عطية عن أبي موسى الأشعري‏:‏ المشكاة الحديدة والرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة‏.‏ وقول الأزهري‏:‏ أراد قصبة الزجاجة التي يستصبح فيها وهي موضع الفتيلة‏.‏

وقد تأوله الأزهري بأن قصبة الزجاجة شبهت بالمشكاة وهي الكوة فأطلق عليها مشكاة‏.‏

والمصباح‏:‏ اسم للإناء الذي يوقد فيه بالزيت للإنارة، وهو من صيغ أسماء الآلات مثل المفتاح، وهو مشتق من اسم الصبح، أي ابتداء ضوء النهار، فالمصباح آلة الإصباح أي الإضاءة‏.‏ وإذا كان المشكاة اسماً للقصيبة التي توضع في جوف القنديل كان المصباح مراداً به الفتيلة التي توضع في تلك القُصيبة‏.‏

وإعادة لفظ ‏{‏المصباح‏}‏ دون أن يقال‏:‏ فيها مصباح في زجاجة، كما قال‏:‏ ‏{‏كمشكاة فيها مصباح‏}‏ إظهار في مقام الإضمار للتنويه بذكر المصباح لأنه أعظم أركان هذا التمثيل، وكذلك إعادة لفظ ‏{‏الزجاجة‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏الزجاجة كأنها كوكب دري‏}‏ لأنه من أعظم أركان التمثيل‏.‏ ويسمى مثل هذه الإعادة تشابه الأطراف في فن البديع، وأنشدوا فيه قول ليلى الأخيلية في مدح الحجاج بن يوسف‏:‏

إذا أُنزل الحجاج أرضاً مريضةً *** تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القناة سقاها

سقاها فروّاها بشرب سجاله *** دماءَ رجال يحلبون صراها

ومما فاقت به الآية عدم تكرار ذلك أكثر من مرتين‏.‏

والزجاجة‏:‏ اسم إناء يصنع من الزجاج، سميت زجاجة لأنها قطعة مصنوعة من الزجاج بضم الزاي وتخفيف الجيمين ملحقة بآخر الكلمة هاء هي علامة الواحد من اسم الجمع كأنهم عاملوا الزجاج معاملة أسماء الجموع مثل تَمر، ونَمل، ونَخْل، كانوا يتخذون من الزجاج آنية للخمر وقناديل للإسراج بمصابيح الزيت لأن الزجاج شفاف لا يحجب نور السراج ولا يحجب لون الخمر وصفاءها ليعلمه الشارب‏.‏

والزجاج‏:‏ صنف من الطين المطيّن من عجين رمللٍ مخصوص يوجد في طبقة الأرض وليس هو رمل الشطوط‏.‏

وهذا العجين اسمه في اصطلاح الكيمياء ‏(‏سليكَا‏)‏ يخلط بأجزاء من رماد نبت يسمى في الكيمياء ‏(‏صُودا‏)‏ ويسمى عند العرب الغاسول وهو الذي يتخذون منه الصابون‏.‏ ويضاف إليهما جزء من الكلس ‏(‏الجير‏)‏ ومن ‏(‏البوتاس‏)‏ أو من ‏(‏أُكسيد الرصاص‏)‏ فيصير ذلك الطين رقيقاً ويدخل للنار فيصهر في أتون خاص به شديد الحرارة حتى يتميّع وتختلط أجزاؤه ثم يخرج من الأتون قطعاً بقدر ما يريد الصانع أن يصنع منه، وهو حينئذٍ رخو يشبه الحلواء فيكون حينئذٍ قابلاً للامتداد وللانتفاخ إذا نُفخ فيه بقصبة من حديد يضعها الصانع في فمه وهي متصلة بقطعة الطين المصهورة فينفخ فيها فإذا داخلها هواء النفَس تمددت وتشكلت بشكل كما يتفق فيتصرف فيه الصانع بتشكيله بالشكل الذي يبتغيه فيجعل منه أواني مختلفة الأشكال من كؤوس وباطيات وقِنِّينات كبيرة وصغيرة وقوارير للخمر وآنية لزيت المصابيح تفضل ما عداها بأنها لا تحجب ضوء السراج وتزيده إشعاعاً‏.‏

وقد كان الزجاج معروفاً عند القدماء من الفنيقيين وعند القبط من نحو القرن الثلاثين قبل المسيح ثم عرفه العرب وهم يسمونه الزجاج والقوارير‏.‏ قال بشار‏:‏

ارفق بعمرو إذا حركت نسبته *** فإنه عربي من قوارير

وقد عرفه العبرانيون في عهد سليمان واتخذ منه سليمان بلاطاً في ساحة صرحه كما ورد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إنه صرح ممرد من قوارير‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقد عرفه اليونان قديماً ومن أقوال الحكيم ‏(‏ديوجينوس اليوناني‏)‏‏:‏ «تيجان الملوك كالزجاج يسرع إليها العطب»‏.‏ وسمى العرب الزجاج بلَّوراً بوزن سنّوْر وبوزن تنُّور‏.‏ واشتهر بصناعته أهل الشام‏.‏ قال الزمخشري في «الكشاف»‏:‏ ‏{‏في زجاجة‏}‏ أراد قنديلاً من زجاج شامي أزهر اه‏.‏ واشتهر بدقة صنعه في القرن الثالث المسيحي أهل البندقية ولونوه وزينوه بالذهب وما زالت البندقية إلى الآن مصدر دقائق صنع الزجاج على اختلاف أشكاله وألوانه يتنافس فيه أهل الأذواق‏.‏ وكذلك بلاد ‏(‏بوهيميا‏)‏ من أرض ‏(‏المجر‏)‏ لجودة التراب الذي يصنع منه في بلادهم‏.‏ ومن أصلح ما انتفع فيه الزجاج اتخاذ أطباق منه توضع على الكوى النافذة والشبابيك لتمنع الرياح وبرد الشتاء والمطر عن سكان البيوت ولا يحجب عن سكانها الضوء‏.‏ وكان ابتكار استعمال هذه الأطباق في القرن الثالث من التاريخ المسيحي ولكن تأخر الانتفاع به في ذلك مع الاضطرار إليه لعسر استعماله وسرعة تصدعه في النقل ووفرة ثمنه، ولذلك اتخذ في النوافذ أول الأمر في البلاد التي يصنع فيها فبقي زماناً طويلاً خاصاً بمنازل الملوك والأثرياء‏.‏

والكوكب‏:‏ النجم، والدرِّيّ بضم الدال وتشديد التحتية في قراءة الجمهور واحد الدراري وهي الكواكب الساطعة النور مثل الزُّهرة والمشتري منسوبة إلى الدُّر في صفاء اللون وبياضه، والياء فيه ياء النسبة وهي نسبة المشابهة كما في قول طرفة يصف راحلته‏:‏

جماليّة وجناء ***

البيت‏.‏

أي كالجمل في عظم الجثة وفي القوة‏.‏

وقولهم في المثل «بات بليلة نابغية» أي كليلة النابغة في قوله‏:‏

فبت كأني ساورتني ضئيلة ***

الأبيات‏.‏

قال الحريري‏:‏ «فبت بليلة نابغية‏.‏ وأحزان يعقوبية» المقامة السابعة والعشرون‏.‏

ومنه قولهم‏:‏ وردي اللون، أي كلون الورد‏.‏ والدر يضرب مثلاً للإشراق والصفاء‏.‏ قال لبيد‏:‏

وتضيء في وجه الظلام منيرة *** كجمانة البحري سُلّ نظامها

وقيل‏:‏ الكوكب الدري علم بالغلبة على كوكب الزهرة‏.‏

وقرأ أبو عمرو والكسائي ‏{‏دِرّيء‏}‏ بكسر الدال ومد الراء على وزن شريب من الدرء وهو الدفع، لأنه يدفع الظلام بضوئه أو لأن بعض شعاعه يدفع بعضاً فيما يخاله الرائي‏.‏

وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال ومد الراء من الدرء أيضاً على أن وزنه فُعِّيل وهو وزن نادر في كلام العرب لكنه من أبنية كلامهم عند سيبويه ومنه عُلِّية وسُرِّية وذُرّية بضم الأول في ثلاثتها‏.‏

وإنما سُلك طريق التشبيه في التعبير عن شدة صفاء الزجاجة لأنه أوجز لفظاً وأبين وصفاً‏.‏ وهذا تشبيه مفرد في أثناء التمثيل ولا حظ له في التمثيل‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يوقد من شجرة‏}‏ الخ في موضع الصفة ل ‏{‏مصباح‏}‏‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ‏{‏يوقد‏}‏ بتحتية في أوله مضمومة بعدها واو ساكنة وبفتح القاف مبنياً للنائب، أي يوقده الموقد‏.‏ فالجملة حال من ‏{‏مصباح‏}‏‏.‏

وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف ‏{‏تَوَقَّد‏}‏ بفوقية مفتوحة في أوله وبفتح الواو وتشديد القاف مفتوحة ورفع الدال على أنه مضارع توقّد حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتوقد على أنه صفة أو حال من ‏{‏مشكاة‏}‏ أو من ‏{‏زجاجة‏}‏ أو من المذكورات وهي مشكاة ومصباح وزجاجة، أي تنير‏.‏ وإسناد التوقد إليها مجاز عقلي‏.‏

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر مثل قراءة حمزة ومن معه لكن بفتح الدال على أنه فعل مضي حال أو صفة لمصباح‏.‏

والإيقاد‏:‏ وضع الوقود وهو ما يزاد في النار المشتعلة ليقوى لهبها، وأريد به هنا ما يُمَد به المصباح من الزيت‏.‏

وفي صيغة المضارع على قراءة الأكثرين إفادة تجدد إيقاده، أي لا يذوى ولا يطفأ‏.‏ وعلى قراءة ابن كثير ومن معه بصيغة المضي إفادة أن وقوده ثبت وتحقق‏.‏

وذكرت الشجرة باسم جنسها ثم أبدل منه ‏{‏زيتونة‏}‏ وهو اسم نوعها للإبهام الذي يعقبه التفصيل اهتماماً بتقرر ذلك في الذهن‏.‏ ووصف الزيتونة بالمباركة لما فيها من كثرة النفع فإنها ينتفع بحبها أكلاً وبزيتها كذلك ويستنار بزيتها ويدخل في أدوية وإصلاح أمور كثيرة‏.‏ وينتفع بحطبها وهو أحسن حطب لأن فيه المادة الدهنية قال تعالى‏:‏ ‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏، وينتفع بجودة هواء غاباتها‏.‏

وقد قيل إن بركتها لأنها من شجر بلاد الشام والشام بلد مبارك من عهد إبراهيم عليه السلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 71‏]‏ يريد أرض الشام‏.‏

ووصف الزيتونة ب ‏{‏مباركة‏}‏ على هذا وصف كاشف، ويجوز أن يكون وصفاً مخصصاً ل ‏{‏زيتونة‏}‏ أي شجرة ذات بركة، أي نماء ووفرة ثمر من بين شجر الزيتون فيكون ذكر هذا الوصف لتحسين المشبه به لينجر منه تحسين للمشبه كما في قول كعب بن زهير‏:‏

شجت بذي شبم من ماء مَحْنية *** صاففٍ بأبطح أصْحى وهو مَشْمول

تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل

فإن قوله، وأفرطه الخ لا يزيد الماء صفاءً ولكنه حالة تحسنه عند السامع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏ وصف ل ‏{‏زيتونة‏}‏‏.‏ دخل حرف ‏(‏لا‏)‏ النافية في كلا الوصفين فصار بمنزلة حرف هجاء من الكلمة بعده ولذلك لم يكن في موضع إعراب نظير ‏(‏ال‏)‏ المعرفة التي ألغز فيها الدماميني بقوله‏:‏

حاجيتكم لتخبروا ما اسمان *** وأول إعرابه في الثاني

وهو مبني بكل حال *** ها هو للناظر كالعيان

لإفادة الاتصاف بنفي كل وصف وعطف على كل وصف ضده لإرادة الاتصاف بوصف وسط بين الوصفين المنفيين لأن الوصفين ضدان على طريقة قولهم‏:‏ «الرمان حلو حامض»‏.‏ والعطف هنا من عطف الصفات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏ وقول المرأة الرابعة من حديث أم زرع‏:‏ «زوجي كليل تهامة لا حَرٌّ ولا قُرُّ» أي وسطاً بين الحر والقُر وقول العجاج يصف حمار وحشٍ‏:‏

حشرج في الجَوف قليلاً وشهق *** حتى يقال ناهقٌ وما نهَق

والمعنى‏:‏ أنها زيتونة جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب، فُنفِيَ عنها أن تكون شرقية وأن تكون غربية، وهذا الاستعمال من قبيل الكناية لأن المقصود لازم المعنى لا صريحه‏.‏ وأما إذا لم يكن الأمران المنفيان متضادين فإن نفيهما لا يقتضي أكثر من نفي وقوعهما كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وظل من يحموم لا بارد ولا كريم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 43، 44‏]‏ وقول المرأة الأولى من نساء حديث أم زرع‏:‏ «زوجي لحم جَمَل على رأس جبَل، لا سَهْلٌ فيرتقى ولا سمين فينتقل»‏.‏

واعلم أن هذا الاستعمال إنما يكون في عطف نفي الأسماء وأما عطف الأفعال المنفية فهو من عطف الجمل نحو‏:‏ ‏{‏فلا صدَّق ولا صلىَّ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض ‏"‏‏.‏

واعلم أيضاً أن هذا لم يرد إلا في النفي بلا النافية ولذلك استقام للحريري أن يلقب شجرة الزيتون بلقب «لا ولا» بقوله في المقامة السادسة والأربعين «بورك فيك من طلا‏.‏ كما بورك في لا ولا» أي في الشجرة التي قال الله في شأنها‏:‏ ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏‏.‏

ثم يحتمل أن يكون معنى‏:‏ ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏ أنها نابتة في موضع بين شرق بلاد العرب وغربها وذلك هو البلاد الشامية‏.‏ وقد قيل إن أصل منبت شجرة الزيتون بلاد الشام‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى أن جهة تلك الشجرة من بين ما يحف بها من شجر الزيتون موقع غير شرق الشمس وغربها وهو أن تكون متجهة إلى الجنوب، أي لا يحجبها عن جهة الجنوب حاجب وذلك أنفع لحياة الشجرة وطيب ثمرتها، فبذلك يكون زيتها أجود زيت وإذا كان أجود كان أشد وقوداً ولذلك أتبع بجملة‏:‏ ‏{‏يكاد زيتها يضيء‏}‏ وهي في موضع الحال‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ولو لم تمسسه نار‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏زيتها‏}‏‏.‏

والزيت‏:‏ عصارة حب الزيتون وما يشبهه من كل عصارة دهنية، مثل زيت السمسم والجلجلان‏.‏ وهو غذاء‏.‏ ولذلك تجب الزكاة في زيت الزيتون إذا كان حبه نصاباً خمسة أوسق وكذلك زكاة زيت الجلجلان والسمسم‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ وصلية‏.‏ والتقدير‏:‏ يكاد يضيء في كل حال حتى في حالة لم تمسسه فيها نار‏.‏

وهذا تشبيه بالغ كمال الإفصاح بحيث هو مع أنه تشبيه هيئة بهيئة هو أيضاً مفرَّق التشبيهات لأجزاء المركب المشبه مع أجزاء المركب المشبه به وذلك أقصى كمال التشبيه التمثيلي في صناعة البلاغة‏.‏

ولما كان المقصود تشبيه الهيئة بالهيئة والمركب بالمركب حسن دخول حرف التشبيه على بعض ما يدل على بعض المركب ليكون قرينة على أن المراد التشبيه المركب ولو كان المراد تشبيه الهدى فقط لقال‏:‏ نوره كمصباح في مشكاة‏.‏‏.‏ إلى آخره‏.‏

فالنور هو معرفة الحق على ما هو عليه المكتسبة من وحي الله وهو القرآن‏.‏ شبه بالمصباح المحفوف بكل ما يزيد نوره انتشاراً وإشراقاً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏نور على نور‏}‏ مستأنفة إشارة إلى أن المقصود من مجموع أجزاء المركب التمثيلي هنا هو البلوغ إلى إيضاح أن الهيئة المشبه بها قد بلغت حد المضاعفة لوسائل الإنارة إذ تظاهرت فيها المشكاة والمصباح والزجاج الخالص والزيت الصافي، فالمصباح إذا كان في مشكاة كان شعاعه منحصراً فيها غير منتشر فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت، وإذا كان موضوعاً في زجاجة صافية تضاعف نوره، وإذا كان زيته نقياً صافياً كان أشد إسراجاً، فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏نور‏}‏ خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏مثل نوره كمشكاة‏}‏ إلى آخره، أي هذا المذكور الذي مثل به الحق هو نور على نور‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي وهو التظاهر والتعاون‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه نور مكرر مضاعف‏.‏ وقد أشرت آنفاً إلى أن هذا التمثيل قابل لتفريق التشبيه في جميع أجزاء ركني التمثيل بأن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابهاً لجزء من الهيئة المشبه بها وذلك أعلى التمثيل‏.‏

فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من انضباط اليقين وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا انثلام‏.‏ وحفظ المصباح من الانطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله‏:‏ ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح، وتبيينُ الحقائق من ذلك الإرشاد‏.‏

وسلامته من أن يطرقه الشك واللبس يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد‏.‏

وسماحة الإسلام وانتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرِّط‏.‏

ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد‏.‏

وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ببيان القرآن وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة وهو مع ذلك بيّن قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم‏.‏

وانتصاب النبي عليه الصلاة والسلام للتعليم يشبه مس النار للسراج وهذا يومئ إلى استمرار هذا الإرشاد‏.‏

كما أن قوله‏:‏ ‏{‏من شجرة‏}‏ يوميء إلى الحاجة إلى اجتهاد علماء الدين في استخراج إرشاده على مرور الأزمنة لأن استخراج الزيت من ثمر الشجرة يتوقف على اعتصار الثمرة وهو الاستنباط‏.‏

‏{‏يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَئ عَلَيِمٌ‏}‏‏.‏

هذه الجمل الثلاث معترضة أو تذييل للتمثيل‏.‏ والمعنى‏:‏ دفع التعجب من عدم اهتداء كثير من الناس بالنور الذي أنزله الله وهو القرآن والإسلام فإن الله إذا لم يشأ هَدْيَ أحد خلقه وجبله على العناد والكفر‏.‏

وأن الله يضرب الأمثال للناس مرجوّا منهم التذكرُ بها‏:‏ فمنهم من يعتبر بها فيهتدي، ومنهم من يعرض فيستمر على ضلاله ولكن شأن تلك الأمثال أن يهتدي بها غير من طُبع على قلبه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ تذييل لمضمون الجملتين قبلها، أي لا يعزب عن علمه شيء‏.‏ ومن ذلك علم من هو قابل للهدى ومن هو مصرّ على غيّه‏.‏ وهذا تعريض بالوعد للأولين والوعيد للآخرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله‏:‏ ‏{‏في بيوت‏}‏ الخ‏.‏ فقيل قوله‏:‏ ‏{‏في بيوت‏}‏ من تمام التمثيل، أي فيكون ‏{‏في بيوت‏}‏ متعلقاً بشيء مما قبله‏.‏ فقيل يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏يوقد‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ أي يوقد المصباح في بيوت‏.‏ وقيل هو صفة لمشكاة، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض؛ وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن ‏{‏مشكاة‏}‏ و‏{‏مصباح‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ مفردان لأن المراد بهما الجنس فتساوى الإفراد والجمع‏.‏

ثم قيل‏:‏ أريد بالبيوت المساجد‏.‏ ولا يستقيم ذلك إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذٍ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي‏:‏ نوّر الله مضجعك يا بن الخطاب كما نورت مسجدنا‏.‏ وروي أن تميماً الداري أسرج المسجد النبوي بمصابيح جاء بها من الشام ولكن إنما أسلم تميم سنة تسع، أي بعد نزول هذه الآية‏.‏ وقيل البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذٍ بِيَعاً للنصارى‏.‏ ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها‏.‏ وقد ذكر صاحب «القاموس» عدداً من الأديرة‏.‏ ويرجح هذا قوله‏:‏ ‏{‏أن ترفع‏}‏ فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رؤوس الجبال‏.‏ أنشد الفراء‏:‏

لو أبصرت رهبان دَير بالجبل *** لانحدر الرهبان يسعى ويصل

والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متّخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرأون الإنجيل فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهدمت صوامع وبيع‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يذكر فيها اسم الله كثيراً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وعبر بالإذن دون الأمر لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة في أصل النصرانية ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامُهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل‏.‏ والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم‏:‏ ‏"‏ فإذا لها كلاليبُ مثلُ حَسَك السَّعدان هل رأيتم حسك السَّعْدان‏؟‏ ‏"‏‏.‏ وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير‏:‏

شجت بذي شبَم من ماء محنيَةِ *** صاففٍ بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل

لأن ما ذكر من وصف البيوت وما يجري فيها مما يكسبها حسناً في نفوس المؤمنين‏.‏

وتخصيص التسبيح بالرجال لأن الرهبان كانوا رجالاً‏.‏

وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله‏:‏ الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا، فيكون معنى‏:‏ ‏{‏لا تلهيهم تجارة ولا بيع‏}‏‏:‏ أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله، فهو من باب‏:‏ على لاحب لا يهتدى بمناره‏.‏

والثناء عليهم يومئذٍ لأنهم كانوا على إيمان صحيح إذ لم تبلغهم يومئذٍ دعوة الإسلام ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يُذع في العامة‏.‏ وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

تُضيء الظلام بالعشيّ كأنها *** منارة مُمْسَى راهب متبتل

وقال أيضاً‏:‏

يضيء سناه أو مصابيح راهب *** أمال السليط بالذبال المفتل

السليط‏:‏ الزيت‏.‏ أي صب الزيت على الذبال فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة‏.‏ وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلاً‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

سموت إليها والنجوم كأنها *** مصابيح رهبان تُشب لقُفَّال

القفال‏:‏ جمع قافل وهم الراجعون من أسفارهم‏.‏

وقيل‏:‏ أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائص‏.‏ فالإذن حينئذٍ بمعنى الأمر‏.‏

وبعد فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله‏:‏ ‏{‏ليجزيهم الله أحسن ما عملوا‏}‏‏.‏

والأظهر عندي‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏في بيوت‏}‏ ظرف مستقر هو حال من ‏{‏نوره‏}‏ في قوله ‏{‏مثل نوره كمشكاة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ الخ مشير إلى أن «نور» في قوله‏:‏ ‏{‏مثل نوره‏}‏ مراد منه القرآن، فيكون هذا الحال تجريداً للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده ‏"‏ فكان هذا التجريد رجوعاً إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة‏:‏

وفي الحي أحوى ينفض المَرْد شادف *** مظاهر سِمطي لؤلؤ وزبرجد

مع ما في الآية من بيان ما أجمل في لفظ‏:‏ ‏{‏مثل نوره‏}‏ وبذلك كانت الآية أبلغ من بيت طرفة لأن الآية جمعت بين تجريد وبيان وبيت طرفة تجريد فقط‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏في بيوت‏}‏ غير مرتبط بما قبله وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏يسبح له فيها‏}‏‏.‏ وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه‏.‏ والتقدير‏:‏ يسبح لله رجال في بيوت، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ تأكيداً لقوله‏:‏ ‏{‏في بيوت‏}‏ لزيادة الاهتمام بها‏.‏ وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث‏:‏ ‏"‏ صلاة أحدكم في المسجد ‏(‏أي الجماعة‏)‏ تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة ‏"‏‏.‏

والمراد بالغدوّ‏:‏ وقت الغدوّ وهو الصباح لأنه وقت خروج الناس في قضاء شؤونهم‏.‏

والآصال‏:‏ جمع أصيل وهو آخر النهار، وتقدم في آخر الأعراف ‏(‏205‏)‏ وفي سورة الرعد ‏(‏15‏)‏‏.‏

والمراد بالرجال‏:‏ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثلهم في التعلق بالمساجد‏.‏

وتخصيص التسبيح بالرجال على هذا لأنهم الغالب على المساجد كما في الحديث‏:‏ «‏.‏‏.‏‏.‏ ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد»‏.‏ ويجوز عندي أن يكون ‏{‏في بيوت‏}‏ خبراً مقدماً و‏{‏رجال‏}‏ مبتدأ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله‏:‏ ‏{‏يهدي الله لنوره من يشاء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ فيسأل السائل في نفسه عن تعيين بعض ممن هداه الله لنوره فقيل‏:‏ رجال في بيوت‏.‏ والرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيوت مساجد المسلمين وغيرها من بيوت الصلاة في أرض الإسلام والمسجد النبوي ومسجد قباء بالمدينة ومسجد جؤاثى بالبحرين‏.‏

ومعنى ‏{‏لا تلهيهم تجارة‏}‏ أنهم لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن الصلوات وأوقاتها في المساجد‏.‏ فليس في الكلام أنهم لا يتجرون ولا يبيعون بالمرة‏.‏

والتجارة‏:‏ جلب السلع للربح في بيعها، والبيع أعم وهو أن يبيع أحد ما يحتاج إلى ثمنه‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يسبح‏}‏ بكسر الموحدة بالبناء للفاعل و‏{‏رجال‏}‏ فاعله‏.‏ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح الموحدة على البناء للمجهول فيكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاثة وهي ‏{‏له فيها بالغدو‏}‏ ويكون ‏{‏رجال‏}‏ فاعلاً بفعل محذوف من جملة هي استئناف‏.‏ ودل على المحذوف قوله‏:‏ ‏{‏يسبّح‏}‏ كأنه قيل‏:‏ من يسبحه‏؟‏ فقيل‏:‏ يُسبح له رجال‏.‏ على نحو قول نهشل بن حَريّ يرثي أخاه يزيد‏:‏

لِيُبْكِ يزيدُ ضارعٌ لخصومة *** ومختبطٌ مما تُطيح الطوائح

وجملة‏:‏ ‏{‏لا تلهيهم تجارة‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏يخافون‏}‏ صفتان ل ‏{‏رجال‏}‏، أي لا يشغلهم ذلك عن أداء ما وجب عليهم من خوف الله ‏{‏وإقام الصلاة‏}‏ الخ وهذا تعريض بالمنافقين‏.‏

و ‏{‏إقام‏}‏ مصدر على وزن الإفعال‏.‏ وهو معتل العين فاستحق نقل حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبله وانقلاب حرف العلة ألفاً إلا أن الغالب في نظائره أن يقترن آخره بهاء تأنيث نحو إدامة واستقامة‏.‏ وجاء مصدر ‏{‏إقام‏}‏ غير مقترن بالهاء في بعض المواضع كما هنا‏.‏ وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة ‏(‏3‏)‏‏.‏

وانتصب ‏{‏يوماً‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏يخافون يوماً‏}‏ على المفعول به لا على الظرف بتقدير مضاف، أي يخافون أهواله‏.‏

وتقلّب القلوب والأبصار‏:‏ اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل كما يتقلب المرء في مكانه‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏110‏)‏‏.‏ والمقصود من خوفه‏:‏ العمل لما فيه الفلاح يومئذٍ كما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ليجزيهم الله أحسن ما عملوا‏}‏‏.‏

ويتعلق قوله‏:‏ ‏{‏ليجزيهم الله أحسن ما عملوا‏}‏ ب ‏{‏يخافون‏}‏، أي كان خوفهم سبباً للجزاء على أعمالهم الناشئة عن ذلك الخوف‏.‏

والزيادة‏:‏ من فضله هي زيادة أجر الرهبان إن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حينما تبلغهم دعوته لما في الحديث الصحيح‏:‏ «أن لهم أجرين» أو هي زيادة فضل الصلاة في المساجد إن كان المراد بالبيوت مساجد الإسلام‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ تذييل لجملة‏:‏ ‏{‏ليجزيهم الله‏}‏‏.‏ وقد حصل التذييل لما في قوله‏:‏ ‏{‏من يشاء‏}‏ من العموم، أي وهم ممن يشاء الله لهم الزيادة‏.‏

والحساب هنا بمعنى التحديد كما في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏37‏)‏‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏جزاء من ربك عطاء حساباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 36‏]‏ فهو بمعنى التعيين والإعداد للاهتمام بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

لمّا جرى ذكر أعمال المتقين من المؤمنين وجزائهم عليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36 38‏]‏ أعقب ذلك بضده من حال أعمال الكافرين التي يحسبونها قربات عند الله تعالى وما هي بمغنية عنهم شيئاً على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة، وعكس ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 197، 198‏]‏ الخ فعطْف حال أعمال الكافرين عطف القصة على القصة‏.‏ ولعل المشركين كانوا إذا سمعوا ما وعد الله به المؤمنين من الجزاء على الأعمال الصالحة يقولون‏:‏ ونحن نعمر المسجد الحرام ونطوف ونطعم المسكين ونسقي الحاج ونقري الضيف‏.‏ كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ يعدون أعمالاً من أفعال الخير فكانت هذه الآيات إبطالاً لحسبانهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن‏.‏

والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً‏.‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏ مبتدأ وخبره جملة‏:‏ ‏{‏أعمالهم كسراب‏}‏ الخ‏.‏ وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بُني عليه مسند إليه آخر وهو ‏{‏أعمالهم‏}‏‏.‏ ولم يُجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شؤونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظاً في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة‏.‏

وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخبر‏.‏ وهو أنه من جزاء كفرهم بالله‏.‏ على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا‏.‏ فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي‏:‏ شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبيّن أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز‏:‏ شبه ذلك بحالة ظمئان يرى السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريماً يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة‏.‏

واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة‏.‏ أي داخلة تحت إدراك الحواس‏.‏

والسراب‏:‏ رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء‏.‏

وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصقة للرمل وتحرُّ الطبقة الهوائية التي فوقها حَرّاً أقل من حرارة الطبقة الملاصقة‏.‏ وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها‏.‏ وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض‏.‏ وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا‏.‏‏.‏ فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها‏.‏ فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيّفت تلك الأشعة بلون الماء‏.‏ ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار‏.‏

ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر‏.‏ وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سَراب‏.‏ وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر، وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له‏:‏ أم العرائس من جهات توزر، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت في أول النظر أنا أشرفنا على بحر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بقيعة‏}‏ الباء بمعنى في‏.‏ و‏(‏قيعة‏)‏ أرض، والجار والمجرور وصف ‏{‏لسراب‏}‏ وهو وصف كاشف لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة‏.‏ وهذا كقولهم في المثل للذليل «هو فَقع في قرقر» فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر‏.‏ والقيعة‏:‏ الأرض المنبسطة ليس فيها رُبّى ويُرادفها القاعة‏.‏ وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يحسبه الظمآن ماء‏}‏ يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع‏.‏ ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله، كأن يحدده بشجرة أو صخرة‏.‏ فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب‏.‏ فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءه‏}‏، أي إذا جاء الموضع الذي تخيّل أنه إن وصل إليه يجد ماء‏.‏ وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له على بُعد كلما تقدم السائر في سيره‏.‏ فضرب ذلك مثلاً لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لم يجده شيئاً‏}‏ أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئاً‏.‏

والشيء‏:‏ هو الموجود وجوداً معلوماً للناس، والسراب موجود ومرئي، فقوله‏:‏ ‏{‏شيئاً‏}‏ أي شيئاً من ماء بقرينة المقام‏.‏

وهذا التمثيل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏‏.‏

و ‏(‏إذا‏)‏ هنا ظرف مجرد عن الشرطية‏.‏ والمعنى‏:‏ زمن مجيئه إلى السراب، أي وصوله إلى الموضع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ووجد الله عنده‏}‏ هو من تمام التمثيل، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد مَنْ إن أخذ بناصيته لم يفلته، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فوفاه حسابه‏}‏ أي أعطاه جزاء كفره وافياً‏.‏ فمعنى ‏{‏فوفاه‏}‏ أنه لا تخفيف فيه، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده تِرة فأخذه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله سريع الحساب‏}‏ تذييل‏.‏ والسريع‏:‏ ضد البطيء‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلاً‏.‏

واعلم أن هذا التمثل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات‏.‏ فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب في أن لها صورة الماء وليست بماء، والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏يحسبه الظمآن‏}‏ استعارة مصرحة، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحه، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتْل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره‏.‏ فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكتِه بالعدوّ، ورمز إلى العدو بقوله‏:‏ ‏{‏فوفاه حسابه‏}‏‏.‏ وتعدية فعل ‏{‏وجد‏}‏ إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

شأن ‏{‏أو‏}‏ إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها وبما بعدها‏.‏ وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏19‏)‏، أي مع اتحاد وجه الشبه‏.‏ ومنه قول أمرئ القيس‏:‏

يُضيء سناه أو مصَابيح راهب ***

وقول لبيد‏:‏

أفتلك أم وحشية مسبوعة *** خذلت وهادية الصوّار قوامها

فإذا كان الكلام هنا جارياً على ذلك الشأن كان المعنى تمثيل الذين كفروا في أعمالهم التي يظنون أنهم يتقربون بها إلى الله بحال ظلمات ليل غشيت ماخراً في بحر شديد الموج قد اقتحم ذلك البحر ليصل إلى غاية مطلوبة، فحالهم في أعمالهم تشبه حال سابح في ظلمات ليل في بحر عميق يغشاه موج يركب بعضه بعضاً لشدة تعاقبه، وإنما يكون ذلك عند اشتداد الرياح حتى لا يكاد يرى يده التي هي أقرب شيء إليه وأوضحُه في رؤيته فكيف يرجو النجاة‏.‏

وإن كان الكلام جارياً على التخيير في التشبيه مع اختلاف وجه الشبه كان المعنى تمثيل حال الذين كفروا في أعمالهم التي يعملونها وهم غير مؤمنين بحال من ركب البحر يرجو بلوغ غاية فإذا هو في ظلمات لا يهتدي معها طريقاً‏.‏ فوجه الشبه هو ما حف بأعمالهم من ضلال الكفر الحائل دون حصول مبتغاهم‏.‏

ويرجح هذا الوجه تذييل التمثيل بقوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏}‏‏.‏

وعلى الوجهين فقوله‏:‏ ‏{‏كظلمات‏}‏ عطف على ‏{‏كسراب‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ والتقدير‏:‏ والذين كفروا أعمالهم كظلمات‏.‏

وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة كما يقال‏:‏ شاهدتُ سواد الكفر في وجه فلان‏.‏

والظلمات‏:‏ الظلمة الشديدة‏.‏ والجمع مستعمل في لازم الكثرة وهو الشدة، فالجمع كناية لأن شدة الظلمة يحصل من تظاهر عدة ظلمات‏.‏ ألا ترى أن ظلمة بين العشاءين أشد من ظلمة عقب الغروب وظلمة العشاء أشد مما قبلها‏.‏

وقد ذكرنا فيما مضى أن لفظ ظلمة بالإفراد لم يرد في القرآن انظر أول سورة الأنعام‏.‏ ومعنى كونها ‏{‏في بحر‏}‏ أنها انطبع سوادها على ماء بحر فصار كأنها في البحر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء فيه ظلمات‏}‏ وقد تقدم في سورة البقرة ‏(‏19‏)‏ إذ جعل الظلمات في الصيب‏.‏

واللجِّيّ منسوب إلى اللجة، واللج هو معظم البحر، أي في بحر عميق، فالنسب مستعمل في التمكن من الوصف كقول أبي النجم‏:‏

والدهر بالإنسان دوّاريّ ***

أي دوّار، وكقولهم‏:‏ رجل مشركي ورجل غلاّبي، أي قوي الشرك وكثير الغلب‏.‏

والموج‏:‏ اسم جمع موجة والموجة‏:‏ مقدار يتصاعد من ماء البحر أو النهر عن سطح مائه بسبب اضطراب في سطحه بهبوب ريح من جانبه يدفعه إلى الشاطئ‏.‏ وأصله مصدر‏:‏ ماج البحر، أي اضطرب وسمي به ما ينشأ عنه‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏من فوقه موج‏}‏ أن الموج لا يتكسر حتى يلحقه موج آخر من فوقه وذلك أبقى لظلمته‏.‏

والسحاب تقدم في سورة الرعد ‏(‏12‏)‏‏.‏ والسحاب يزيد الظلمة إظلاماً لأنه يحجب ضوء النجم والهلال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ظلمات بعضها فوق بعض‏}‏ استئناف‏.‏ والتقدير‏:‏ هي ظلمات والمراد بالظلمات التي هنا غير المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أو كظلمات‏}‏ لأن الجمع هنا جمع أنواع وهنالك جمع أفراد من نوع واحد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏سحاب ظلمات‏}‏ بالتنوين فيهما‏.‏ وقرأ البزي عن ابن كثير ‏{‏من فوقه سحاب ظلمات‏}‏ بترك التنوين في ‏{‏سحاب‏}‏ وبإضافته إلى ‏{‏ظلمات‏}‏‏.‏ وقرأه قنبل عن ابن كثير برفع ‏{‏سحاب‏}‏ منوناً وبجر ‏{‏ظلمات‏}‏ على البدل من قوله‏:‏ ‏{‏أو كظلمات‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لم يكد يراها‏}‏ هو من قبيل قوله ‏{‏فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏ وقد تقدم وجه هذا الاستعمال في سورة البقرة وما فيه من قصة بيت ذي الرمة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور‏}‏ تذييل للتمثيل، أي هم باءوا بالخيبة فيما ابتغوا مما عملوا وقد حفهم الضلال الشديد فيما عملوا حتى عدموا فائدته لأن الله لم يخلق في قلوبهم الهدى حين لم يوفقهم إلى الإيمان، أي أن الله جبلهم غير قابلين للهدى فلم يجعل لهم قبوله في قلوبهم فلا يحل بها شيء من الهدى‏.‏

وفيه تنبيه على أن الله تعالى متصرف بالإعطاء والمنع على حسب إرادته وحكمته وما سبق من نظام تدبيره‏.‏

وهذا التمثيل صالح لاعتبار التفريق في تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها؛ فالضلالات تشبه الظلمات، والأعمال التي اقتحمها الكافر لقصد التقرب بها تشبه البحر، وما يخالط أعماله الحسنة من الأعمال الباطلة كالبحيرة، والسائبة يشبه الموج في تخليطه العمل الحسن وتخلله فيه وهو الموج الأول‏.‏ وما يرد على ذلك من أعمال الكفر كالذبح للأصنام يشبه الموج الغامر الآتي على جميع ذلك بالتخلل والإفساد وهو الموج الثاني، وما يحف اعتقاده من الحيرة في تمييز الحسن من العبث ومن القبيح يشبه السحاب الذي يغشى ما بقي في السماء من بصيص أنوار النجوم، وتطلّبُه الانتفاع من عمله يشبه إخراج الماخر يده لإصلاح أمر سفينته أو تناول ما يحتاجه فلا يرى يده بله الشيء الذي يريد تناوله‏.‏